https://www.igi-global.com/viewtitle.aspx?TitleId=334503&isxn=9798369302200
الخميس، 21 ديسمبر 2023
الاثنين، 4 ديسمبر 2023
قضاء محكمة النقض الفرنسية بشأن إجراء المثول على أساس الاعتراف بالجرم
قضت محكمة النقض الفرنسية - الغرفة الجنائية - في أحدث أحكامها بتاريخ ٢٩/ ١١/ ٢٠٢٣ :
الأحد، 3 ديسمبر 2023
أصل البراءة في قضاء المحكمة الدستورية العليا
المحكمة الدستورية العليا المصرية
قضية رقم 13 لسنة 12 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
مبادئ الحكم: أصل البراءة - اتفاقيات دولية - افتراض البراءة - الحق في محاكمة منصفة - جمارك حق الدفاع - دستور - مبدأ الفصل بين السلطات
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة 2 فبراير سنة 1992 م
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر
رئيس المحكمة
والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد علي عبد الواحد وماهر البحيري
أعضاء
وحضور السيد المستشار/ السيد عبد الحميد عمارة
المفوض
وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد
أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 13 لسنة 12 قضائية "دستورية".
الإجراءات
بتاريخ 19 مارس سنة 1990 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 فيما تضمنته من إقامة قرينة قانونية افترضت بها العلم بالتهريب في حق الحائز للبضائع والسلع الأجنبية بقصد الاتجار إذ لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية المقررة عليها.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعي في القضية رقم 142 لسنة 1986 جنح قسم قنا بأنه في يوم 3 يناير سنة 1983 بدائرة قسم قنا "حاز بقصد الاتجار بضائع أجنبية مهربة من الرسوم الجمركية مع العلم بذلك". وطلبت عقابه بالمواد 121 و122 و124 و124 مكررا من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 75 لسنة 1980، وبتاريخ 8 فبراير سنة 1988 قضت محكمة جنح قسم قنا حضوريا بحبس المدعي سنتين مع الشغل وكفالة عشرين جنيها لإيقاف التنفيذ، وغرامة ألف جنيه والمصادرة والمصاريف الجنائية، وإلزامه بأن يؤدي للمدعية بالحق المدني بصفتها (وزارة المالية) تعويضا قدره 390 مليما و222 جنيه، فطعن المدعى في هذا الحكم بطريق الاستئناف، وقيد استئنافه برقم 1188 لسنة 1988 جنح مستأنفة قنا، وبجلسة 21 ديسمبر سنة 1989 دفع الحاضر عن المدعي بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980، فقررت المحكمة التأجيل لجلسة 19 أبريل سنة 1990 كطلب الحاضر مع المتهم لإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 والمعدل بالقرار بقانون رقم 187 لسنة 1986 تنص على أن "يعتبر في حكم التهريب حيازة البضائع الأجنبية بقصد الاتجار مع العلم بأنها مهربة، ويفترض العلم إذا لم يقدم من وجدت في حيازته هذه البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية...".
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون عليه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم الحائز للبضائع الأجنبية بقصد الاتجار فيها بتهريبها، إذ لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية عليها فإنه يكون قد خالف قرينة البراءة التي تضمنتها المادة 67 من الدستور التي تنص على أن "المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه".
وحيث إن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه فنص في المادة 86 منه على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين في الدستور". كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور فنص في المادة 165 منه على أن "السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون".
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على عملها وإخلالها بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره في محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه، وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة السابقة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها وكيفية تطبيقها من الناحية العملية، كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضى الدستور في المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه، ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوى الجنائية وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة وبغض النظر عن درجة خطورتها، وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى، ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة مبينا طبيعتها مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة في علانية وخلال مدة معقولة، وان تستند المحكمة في قرارها بالإدانة - إذا خلصت إليها - إلى موضوعية التحقيق الذي تجريه، وإلى عرض متجرد للحقائق، وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها، ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67 منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها وتندرجان تحت مفهومها، وهما افتراض البراءة من ناحية، وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة سالفة الذكر عند فصلها في الاتهام الجنائي وهيمنتها على إجراءاتها تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية - التي كفلها الدستور لكل مواطن - بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه، وان يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافه، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 منه مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أو متهما باعتباره قاعدة أساسية في النظام الإتهامي أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين، وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة الإجرامية، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، فقد ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء حازم لا رجعة فيه هذا الافتراض على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكمية ينشؤها.
وحيث إن النص التشريعي المطعون فيه بعد أن قرر أن حيازة البضائع الأجنبية بقصد الاتجار فيها مع العلم بأنها مهربة يعتبر في حكم التهريب الجمركي، نص على أن هذا العلم يفترض إذا لم يقدم حائز البضائع الأجنبية بقصد الاتجار المستندات الدالة على سبق الوفاء بالضريبة المستحقة عنها، وبذلك أحل المشرع واقعة عدم تقديم الحائز المذكور لتلك المستندات محل واقعة علمه بتهريب البضائع التي يحوزها بقصد الاتجار فيها منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها دليلا على ثبوت واقعة العلم بالتهريب التي كان ينبغي أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها في إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لقيام كل ركن يتصل ببنيان الجريمة، ويعتبر من عناصرها، بما في ذلك القصد الجنائي العام ممثلا في إرادة الفعل مع العلم بالوقائع التي تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التي تضمنها النص التشريعي المطعون فيه والسالف بيانها، لا تعتبر من القرائن القاطعة، إذ الأصل في القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها، ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم هدمها وقد التزم القانون الجمركي الأصل العام في القرائن القانونية بما تضمنته مذكرته الإيضاحية من أن الأثر الذي رتبه هذا القانون على افتراض علم الحائز بحقيقة أن البضائع الأجنبية التي يحوزها للاتجار فيها مهربة، هو أن النيابة العامة أضحت غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم، وأن نفيه غدا التزاما قانونيا ألقاه المشرع على عاتق الحائز، مثلما هو الشأن في القرائن القانونية، ذلك أن المشرع هو الذي تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها بقيام القرينة القانونية وأعفى النيابة العامة بالتالي من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك، وكان الأصل في القرائن القانونية قاطعة كانت أو غير قاطعة - هي أنها من عمل المشرع وهو لا يقيمها تحكما أو إملاء، وإنما يجب أن تصاغ القرينة وأن يتحدد مضمونها على ضوء ما يقع غالبا في الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التي تضمنها النص التشريعي المطعون عليه لا تعتبر كذلك، ذلك أنها تتعلق ببضائع أجنبية يجري التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية، وهو تعامل لا ينحصر فيمن قام باستيرادها ابتداء، وإنما تتداولها أيد عديدة شراء وبيعا إلى أن تصل إلى حائزها الأخير، وفي كل ذلك يتم التعامل فيها بافتراض سبق الوفاء بالضريبة الجمركية المستحقة عنها ترتيبا على تجاوزها الدائرة الجمركية التي ترصد في محيطها البضائع الواردة وتقدر ضرائبها وتتم إجراءاتها باعتبار أن ذلك هو الأصل فيها وأن تهريبها لا يكون إلا بدليل تقدمه الإدارة الجمركية ذاتها وهو ما أكدته الفقرة الثالثة من المادة 5 من القانون الجمركي بما نصت عليه من أن الضريبة الجمركية إنما تستحق بمناسبة ورود البضاعة أو تصديرها وفقا للقوانين والقرارات المنظمة لها، وأنه لا يجوز الإفراج عن أية بضاعة قبل إتمام الإجراءات الجمركية، وأداء الضرائب والرسوم المستحقة عنها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. ولازم ما تقدم، أن عدم تقديم حائز البضائع الأجنبية بقصد الاتجار فيها المستندات الدالة على الوفاء بالضرائب الجمركية المستحقة عليها، لا يفيد بالضرورة علمه بتهريبها، إذ كان ذلك، فإن الواقعة البديلة التي اختارها النص المطعون فيه لا ترشح في الأعم الأغلب من الأحوال لاعتبار واقعة العلم بالتهريب ثابتة بحكم القانون ولا تربطها بالتالي علاقة منطقية بها. وتغدو القرينة بالتالي غير مرتكزة على أسس موضوعية ومقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومجاوزة من ثم لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور في صلبه.
وحيث إن جريمة التهريب الجمركي من الجرائم العمدية التي يعتبر القصد الجنائي ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها وعلى ضوء تقديرها للأدلة التي تطرح عليها من علم المتهم بحقيقة الأمر في شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة وأن يكون هذا العلم يقينا لا ظنيا أو افتراضيا، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، وكان النص التشريعي المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر، دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية مقحما بذلك وجهة النظر التي ارتآها في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذي تجريه بنفسها تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي، وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها، إذ كان ذلك، فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة - بالنص التشريعي المطعون عليه - من التزاماتها بالنسبة إلى واقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائي وتعتبر من عناصره، هي واقعة علم المتهم بتهريب البضائع الأجنبية التي يحوزها بقصد الاتجار فيها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، وأن تقول كلمتها بشأنها، بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة تحكمية، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بموجبات الفصل بينها وبين السلطة التشريعية، ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه في كل وقائعها وعناصرها، ومخالفا بالتالي لنص المادة 67 من الدستور.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك - ومن ناحية أخرى - وثيقة الصلة بالحق في الدفاع وتتمثل في حق المتهم في مواجهة الأدلة التي قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها، وكان النص التشريعي المطعون عليه - وعن طريق القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي - قد اخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة في حقه بغير دليل، ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل، وكان هذا النص - وعلى ضوء ما تقدم جميعه - ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، ومن الحرية الشخصية ويناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفا لأحكام المواد 41 و67 و69 و86 و165 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 وذلك فيما تضمنته فقرتها الثانية من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت في حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية المقررة، مع إلزام الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
قضاء المحكمة الدستورية العليا المصرية بشأن أركان الجريمة في الدعوى رقم 49 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
المحكمة الدستورية العليا المصرية
الدعوى رقم 49 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
مبادئ الحكم
الركن المادي والمعنوي للجريمة
حيث إن الدستور بما نص عليه في المادة 66 من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، بما مؤداه أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إن من المقرر أن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائي ركنا معنويا في الجريمة مُكملاً لركنها المادي، ومتلائما مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنا في الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا في طبيعتها، وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أو غريباً عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر. ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة - في معناها - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرا ثابتا - وكأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر، ومن ثم مقصودا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسراً، إلا أن معناها - وبوصفها ركنا معنويا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة أو النوازع الشريرة المدبرة أو تلك التي يكون الخداع قوامها أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترناً بقصد اقتحام حدوده، لتدل جميعها علي إرادة إتيان فعل بغياً.
القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية
حيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثرا. ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية. ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التي كفلها الدستور.
العدالة الجنائية
إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثرا. ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية. ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التي كفلها الدستور.
وحيث إن العدالة الجنائية في جوهر ملامحها، هي التي يتعين ضمانها من خلال قواعد محددة تحديدا دقيقا، ومنصفا، يتقرر على ضوئها ما إذا كان المتهم مدانا أو بريئا، ويفترض ذلك توازنا بين مصلحة الجماعة في استقرار أمنها، ومصلحة المتهم في ألا تفرض عليه عقوبة ليس لها من صلة بفعل أتاه، أو تفتقر هذه الصلة إلى الدليل عليها. ولا يجوز بالتالي أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التي تكفل لكل متهم حدا أدنى من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة أن يظل التجريم مرتبطا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية.
وحيث إن الأصل في النصوص العقابية، أن تصاغ في حدود ضيقة narrowly tailored تعريفا بالأفعال التي جرمها المشرع، وتحديدا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التي تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق في تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل في إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور. ولازمها ألا تكون النصوص العقابية شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها، من يقعون تحتها، أو لا يبصرون مواقعها. كذلك فإن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها. وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن "وطأتها" مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن "شخصية العقوبة"، "وتناسبها مع الجريمة محلها"، مرتبطتان بمن يعد قانونا "مسئولا عن ارتكابها". ومن ثم تفترض شخصية العقوبة - التي كفلها الدستور بنص المادة 66 - شخصية المسئولية الجنائية، وبما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها.
إساءة استعمال العقوبة - حقوق المتهم
إن من المقرر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، وأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن إساءة استخدام العقوبة تشويها لأهدافها، يناقض القيم التي تؤمن بها الجماعة في اتصالها بالأمم المتحضرة وتفاعلها معها.
أصل البراءة
إن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيمها لعلائق الأفراد سواء فيما بينهم أو من خلال روابطهم مع مجتمعهم، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، فلا يكون الجزاء على أفعالهم مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن جاوز تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور. وحيث إن الأصل في كل اتهام أن يكون جادا، ولا يتصور أن يكون الاتهام بالتالي عملا نزقا تنزلق إليه النيابة العامة بتسرعها أو تفريطها؛ وكان من البدهي أن الاتهام بالجريمة ليس قرين ثبوتها، ولا يعدل التدليل عليها؛ وكان الاتهام ولو قام على أسباب ترجح معها إدانة المتهم عن الجريمة، لا يزيد عن مجرد شبهة لم تفصل فيها محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه سواء بإثباتها أو نفيها؛ وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن القواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة التي تطلبها الدستور بنص المادة 67 - سواء عند الفصل في كل اتهام جنائي أو في حقوق الشخص والتزاماته المدنية - وإن كانت إجرائية في الأصل، إلا أن تطبيقها في نطاق الدعوى الجنائية - وعلى امتداد حلقاتها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية؛ وكان من المقرر أن أصل البراءة يندرج تحت هذه القواعد باعتباره قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وتقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وبوصفها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده، بل يمتد إلي مراحل حياته حتى نهايتها، ليقارن الأفعال التي يأتيها، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أيا كان وزن الأدلة التي يؤسس عليها؛ وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وكان هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما باعتباره قاعدة جوهرية أقرتها الشرائع جميعها - لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين - ولكن لتحقق بموجبها أصلا شرعيا مؤداه أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة التي يتعين درؤها عن كل فرد تكون التهمة الموجهة إليه مشكوكا فيها أو مبناها أدلة لا يجوز قبولها قانونا؛ وكان الاتهام الجنائي - وعلى ضوء ما تقدم - لا يزحزح أصل البراءة ولا ينقض محتواه، بل يظل هذا الأصل مهيمنا على الدعوى الجنائية، بل قائما قبل تحريكها، ومنبسطا على امتداد مراحلها وأيا كان زمن الفصل فيها؛ وكانت التدابير التي حددها النص المطعون فيه، تنال جميعها من الحرية الشخصية لاتسامها بخصائص العقوبة وانطوائها على عبئها، وانصرافها إيلاما مقصودا، ولا تقابلها أفعال أثمها المشرع وحددها تحديدا دقيقا؛ وكان اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق في شأن شخص معين - ولو كان اتهاما جديا - مؤداه أنه صار مشتبها فيه - لا بناء على أفعال يتوافر لها خاصية اليقين التي تميز القوانين الجزائية - بل ارتباطا بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها؛ وكانت خطورته هذه - التي استنبطها المشرع من تعدد وقائع الاتهام - وإن لم تفض بعد إلي جريمة بالفعل، إلا أن المشرع أقام بها صلة مبتسرة بين ماضيه وحاضره، دامجاً بينهما، مستوجبا محاسبته عن تلك الحالة التي أنشأها، وقرنها بتتابع الاتهام، لتنحل إرهاصا بعودة الأشخاص الذين تعلق بهم مجال تطبيق النص المطعون فيه إلى الإجرام، بافتراض أنهم لا يعرفون لأقدامهم موقعها، ولا يقدرون للأمور عواقبها، وأن نزوعهم إلى الإجرام راجحا، حال أن مصائر الناس لا يجوز أن تعلق على غير أفعالهم التي يسألون عن حسنها أو قبحها؛ وكان اتهامهم ولو كان جديا ومتتابعا، لا يعدو أن يكون شبهة قد لا يكون لها من ساق، ولا يجوز بالتالي أن يردهم النص المطعون فيه جميعا إلى دائرة الخطورة الاجتماعية، ويلصقها دوما بهم، أيا كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضى ببراءتهم، ليكون لغوا وافتئاتا على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها، وهي بعد حرية لا يجوز تقييدها على خلاف أحكام الدستور التي لا تعتد إلا بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم، ولأنها دون غيرها هي التي يجوز إثباتها ونفيها، وهي التي يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها. ولا كذلك الخطورة الإجرامية التي لا تمثل سلوكا محددا أتاه الشخص، ولا تخالطها إرادة واعية يعبر بها عن قصد بلوغ نتيجة إجرامية بذاتها، بل تقوم في مبناها على افتراض تشريعي منتحل، مؤداه أن المتهمين جديا أكثر من مرة، قد شقوا على جماعتهم عصا الطاعة، وأنهم بالغون من أمرهم ما يدنيهم من العدوان عليها، وهو افتراض يباعد بينهم وبينها، لتنغلق أمامهم فرص الاندماج فيها.
خضوع الدولة للقانون - عدم المعاقبة على الفعل الواحد أكثر من مرة
أن مبدأ خضوع الدولة للقانون - محدد على ضوء مفهوم ديموقراطى - مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديموقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية بالنظر إلى مكوناتها وخصائصها، ومن بينها ألا تكون العقوبة مهينة في ذاتها، أو كاشفة عن قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة على فعل واحد وهذه القاعدة الأخيرة - التي كفلتها النظم القانونية جميعها، وصاغتها المواثيق الدولية باعتبارها مبدأ مستقرا بين الدول مردها أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين، وأنه وإن كان الأصل أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التي تناسبها، إلا أن توقيعها في شأن مرتكبها واستيفاءها، يعني أن القصاص قد اكتمل باقتضائها. وليس لأحد بعدئذ على فاعلها من سبيل.
ولا يجوز من ثم، أن يتعرض الشخص لخطر ملاحقته باتهام جنائي أكثر من مرة عن الجريمة عينها، ولا أن تعيد الدولة بكل سلطاتها ومواردها محاولتها إدانته عن جريمة تدعى ارتكابه لها - ولو من خلال خطورة إجرامية تعتبرها جريمة في ذاتها، وتلحقها بها - لأنها إذ تفعل، فإنما تبقيه قلقا مضطربا، مهددا بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لا قبل له بها، مبددا لموارده في غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته - ولو كان بريئا - تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائي متتابعا عن الجريمة ذاتها.
افتراض البراءة
مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص - لا عن جريمة أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى جسامتها - بل بناء على محض افتراض بالإيغال في الإجرام لا يرتد المذنبون عنه أبدا، بل هم إليه منصرفون يبغونها عوجا؛ وكان لا يجوز وفقا للدستور، أن يتعلق التجريم بخطورة أحدثها المشرع ولو في نفس قابلة لها، ولا يتسم باليقين تعلقها بشخص معين، بل تقوم في بنيانها على أن الجرائم التي ارتكبها من قبل، هي التي تشهد بحاضره، وينبغي أن تكون محددة مستقبلا لخطاه؛ وكان القول بأن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن حكم عليه أكثر من مرة، لازمها اتخاذ تدابير تتوقاها وترد سوأتها الإجرامية، مردود بأن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التي ارتكبها، جزاءها الملائم آخذة في اعتبارها سجله الإجرامي؛ وكان لا ينبغي أن يقرر المشرع - بالنص المطعون فيه - عقابا أكثر من مرة عن فعل واحد، بعد أن اكتمل القصاص في شأن الجرائم السابقة جميعها، ودونما جريمة جديدة يُدَّعىَ وقوعها.
الدعوى رقم 49 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
نص الحكم
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 15 يونيه سنة 1996م الموافق 28 المحرم سنة 1417هـ.
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر
رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين: محمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض.
أعضاء
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي
رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ حمدي أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 49 لسنة 17 قضائية "دستورية".
المقامة من
السيد/ ...
ضد
السيد/ رئيس الجمهورية
السيد/ رئيس مجلس الوزراء
السيد المستشار/ النائب العام
الإجراءات
في الثاني من أغسطس سنة 1995 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من قرار رئيس الجمهورية رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها والاتجار فيها المعدل بالقانونين رقمي 40 لسنة 1966 و122 لسنة 1989.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت أقامت الدعوى الجنائية في القضية رقم 5154 لسنة 1993 جنح الجمرك ضد المدعي عملا بالمادة 48 مكرراً من القرار بقانون رقم 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989، وذلك لما ثبت بمحضر الشرطة من أنه مسجل شقي خطر سبق ضبطه في إحدى عشرة قضية مخدرات آخرها القضية رقم 129 لسنة 1992 جنايات مخدرات الجمرك، وأن نشاطه قد اتسع في تهريبها وتجارتها.
وبجلسة 9/2/1994 قضت محكمة جنح الجمرك غيابيا بإيداعه إحدى المؤسسات الاجتماعية لمدة سنة، فعارض في هذا الحكم وقضي بجلسة 16/10/1994 باعتبار المعارضة كأن لم تكن. ثم استأنف هذا الحكم، وحكمت محكمة الإسكندرية الابتدائية بجلسة 4/12/1994 غيابيا بسقوط حق المتهم في الاستئناف، وإذ عارض في هذا الحكم، ودفع بجلسة 26/3/1995 بعدم دستورية المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960، فقد صرحت له المحكمة بجلسة 25/6/1995 - بعد تقديرها لجدية دفعه - برفع الدعوى الدستورية، فأقامها. وبجلسة 27/8/1995 قررت المحكمة وقف الدعوى لحين الفصل في الطعن بعدم الدستورية.
من حيث إن المادة 48 من القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، تنص بعد تعديلها بالقانون رقم 40 لسنة 1966، على أن:
"تحكم المحكمة الجزئية المختصة باتخاذ أحد التدابير الآتية على كل من سبق الحكم عليه أكثر من مرة، أو اتهم لأسباب جدية أكثر من مرة في إحدى الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون: (1) الإيداع في إحدى مؤسسات العمل التي تحدد بقرار من وزير الداخلية (2) تحديد الإقامة في جهة معينة (3) منع الإقامة في جهة معينة (4) الإعادة إلى الموطن الأصلي (5) حظر التردد على أماكن أو محال معينة (6) الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة.
ولا يجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به على سنة، ولا تزيد عن عشر سنوات.
وفي حالة مخالفة المحكوم عليه التدبير المحكوم به، يحكم على المخالف بالحبس.
وحيث إن المدعي ينعى على النص السابق، مخالفته أحكام المواد 41، 66، 67 من الدستور، التي تنص أولاهما على أن الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة فلا يجوز الإخلال بها، وتقضي ثانيتهما بأن العقوبة شخصية، وثالثتهما بأن كل متهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
وقال شرحا لذلك، إن التطورات الحديثة في مكافحة الجريمة تؤكد حقيقة أولية هي أن العقوبة لا تغني في مكافحتها، وأن لشخصية الإنسان قيمة عليا، فلا يجب أن يتعرض أحد لعقوبة لا يستحقها، أو تفقد تناسبها مع الجريمة التي ارتكبها. ومجرد الردع ليس كافيا لإيقاع الجزاء، والتزمت في العقوبة أو وحشيتها لا يكفلان مكافحة ظاهرة الإجرام، بما مؤداه أن النص المطعون فيه، يقيد حقوق الإنسان وحرياته التي لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة، ويفرض كذلك عقوبة بلا جريمة حدد المشرع أركانها، ولا يرتبط توقيعها بالتالي بفعل أو امتناع صدر عن شخص يعد جانيا، ذلك أن تعدد الأحكام القضائية الصادرة ضد شخص معين في جرائم المخدرات أو سبق اتهامه فيها، يعني أننا بصدد جريمة بلا سلوك أتاه، وهو ما يناقض قضاء المحكمة الدستورية العليا، ويصم النص المطعون عليه بعدم الدستورية.
وحيث إن التدابير المنصوص عليها في البنود من (1) إلى (6) من الفقرة الأولى من النص المطعون فيه، تعتبر جميعها من قبيل تدابير الدفاع الاجتماعي التي تنال من الحرية الشخصية، ويرتبط توقيعها بتقدير المشرع لقيام حالة خطرة بشخص معين، فلا يكون التدبير منفصلا عنها، بل لازما لمجابهتها.
وحيث إن البين من النص المطعون فيه، أن التدابير التي حددها لا يجوز توقيعها ضد شخص معين إلا في إحدى حالتين هما، سبق الحكم عليه أو اتهامه اتهاما جديا أكثر من مرة في جناية نص عليها القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها.
وحيث إن الدستور بما نص عليه في المادة 66 من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه، هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، بما مؤداه أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إن من المقرر أن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها [an evil - doing hand]، وعقل واع خالطها [an evil - meaning mind] ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائي ركنا معنويا في الجريمة [Mens Rea] مُكملاً لركنها المادي [Actus Reus]، ومتلائما مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنا في الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا في طبيعتها، وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أو غريباً عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر. ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة - في معناها - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرا ثابتا - وكأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر، ومن ثم مقصودا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسراً، إلا أن معناها - وبوصفها ركنا معنويا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة felonious intent أو النوازع الشريرة المدبرة malice aforethought أو تلك التي يكون الخداع قوامها fraudulent intent أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترناً بقصد اقتحام حدوده guilty knowledge، لتدل جميعها علي إرادة إتيان فعل بغياً.
وحيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثرا. ويتعين بالتالي أن يكون إنفاذ القيود التي تفرضها القوانين الجنائية على الحرية الشخصية، رهنا بمشروعيتها الدستورية. ويندرج تحت ذلك، أن تكون محددة بصورة يقينية لا التباس فيها. ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا، أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو تباين الآراء حول مقاصدها، أو تقرير المسئولية الجنائية في غير مجالاتها عدوانا على الحرية الشخصية التي كفلها الدستور.
وحيث إن العدالة الجنائية في جوهر ملامحها، هي التي يتعين ضمانها من خلال قواعد محددة تحديدا دقيقا، ومنصفا، يتقرر على ضوئها ما إذا كان المتهم مدانا أو بريئا، ويفترض ذلك توازنا بين مصلحة الجماعة في استقرار أمنها، ومصلحة المتهم في ألا تفرض عليه عقوبة ليس لها من صلة بفعل أتاه، أو تفتقر هذه الصلة إلى الدليل عليها. ولا يجوز بالتالي أن تنفصل العدالة الجنائية عن مقوماتها التي تكفل لكل متهم حدا أدنى من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها أو التفريط فيها، ولا أن تخل بضرورة أن يظل التجريم مرتبطا بالأغراض النهائية للقوانين العقابية.
وحيث إن الأصل في النصوص العقابية، أن تصاغ في حدود ضيقة narrowly tailored تعريفا بالأفعال التي جرمها المشرع، وتحديدا لماهيتها، لضمان ألا يكون التجهيل بها موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التي تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق في تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل في إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور. ولازمها ألا تكون النصوص العقابية شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها، من يقعون تحتها، أو لا يبصرون مواقعها. كذلك فإن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها. وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن "وطأتها" مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن "شخصية العقوبة"، "وتناسبها مع الجريمة محلها"، مرتبطتان بمن يعد قانونا "مسئولا عن ارتكابها". ومن ثم تفترض شخصية العقوبة - التي كفلها الدستور بنص المادة 66 - شخصية المسئولية الجنائية، وبما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها.
وحيث إن من المقرر - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، وأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن إساءة استخدام العقوبة تشويها لأهدافها، يناقض القيم التي تؤمن بها الجماعة في اتصالها بالأمم المتحضرة وتفاعلها معها. ولا يكفى بالتالي أن يقرر المشرع لكل متهم حقوقا قبل سلطة الاتهام توازنها وتردها إلى حدود منطقية، بل يتعين أن يكون ضمان هذه الحقوق مكفولا من خلال وسائل إجرائية إلزامية يملكها ويوجهها، من بينها - بل وفي مقدمتها - حق الدفاع بما يشتمل عليه من الحق في الحصول على مشورة محام، والحق في دحض الأدلة التي تقدمها النيابة العامة إثباتا للجريمة التي نسبتها إليه، بما في ذلك مواجهته لشهودها، واستدعاءه لشهوده، وألا يحمل على الإدلاء بأقوال تشهد عليه La protection contre L"auto - incrimination.
وحيث إن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيمها لعلائق الأفراد سواء فيما بينهم أو من خلال روابطهم مع مجتمعهم، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، فلا يكون الجزاء على أفعالهم مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن جاوز تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور. وحيث إن الأصل في كل اتهام أن يكون جادا، ولا يتصور أن يكون الاتهام بالتالي عملا نزقا تنزلق إليه النيابة العامة بتسرعها أو تفريطها؛ وكان من البدهي أن الاتهام بالجريمة ليس قرين ثبوتها، ولا يعدل التدليل عليها؛ وكان الاتهام ولو قام على أسباب ترجح معها إدانة المتهم عن الجريمة، لا يزيد عن مجرد شبهة لم تفصل فيها محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه سواء بإثباتها أو نفيها؛ وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن القواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة التي تطلبها الدستور بنص المادة 67 - سواء عند الفصل في كل اتهام جنائي أو في حقوق الشخص والتزاماته المدنية - وإن كانت إجرائية في الأصل، إلا أن تطبيقها في نطاق الدعوى الجنائية - وعلى امتداد حلقاتها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية؛ وكان من المقرر أن أصل البراءة يندرج تحت هذه القواعد باعتباره قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وتقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وبوصفها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده، بل يمتد إلي مراحل حياته حتى نهايتها، ليقارن الأفعال التي يأتيها، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أيا كان وزن الأدلة التي يؤسس عليها؛ وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وكان هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما باعتباره قاعدة جوهرية أقرتها الشرائع جميعها - لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين - ولكن لتحقق بموجبها أصلا شرعيا مؤداه أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة التي يتعين درؤها عن كل فرد تكون التهمة الموجهة إليه مشكوكا فيها "Dans le doute, on acquitte" أو مبناها أدلة لا يجوز قبولها قانونا؛ وكان الاتهام الجنائي - وعلى ضوء ما تقدم - لا يزحزح أصل البراءة ولا ينقض محتواه، بل يظل هذا الأصل مهيمنا على الدعوى الجنائية، بل قائما قبل تحريكها، ومنبسطا على امتداد مراحلها وأيا كان زمن الفصل فيها؛ وكانت التدابير التي حددها النص المطعون فيه، تنال جميعها من الحرية الشخصية لاتسامها بخصائص العقوبة وانطوائها على عبئها، وانصرافها إيلاما مقصودا، ولا تقابلها أفعال أثمها المشرع وحددها تحديدا دقيقا؛ وكان اتخاذ أحد هذه التدابير بناء على اتهام متلاحق في شأن شخص معين - ولو كان اتهاما جديا - مؤداه أنه صار مشتبها فيه - لا بناء على أفعال يتوافر لها خاصية اليقين التي تميز القوانين الجزائية - بل ارتباطا بخطورة إجرامية افترضها المشرع ووصمه بها؛ وكانت خطورته هذه - التي استنبطها المشرع من تعدد وقائع الاتهام - وإن لم تفض بعد إلي جريمة بالفعل، إلا أن المشرع أقام بها صلة مبتسرة بين ماضيه وحاضره، دامجاً بينهما، مستوجبا محاسبته عن تلك الحالة التي أنشأها، وقرنها بتتابع الاتهام، لتنحل إرهاصا بعودة الأشخاص الذين تعلق بهم مجال تطبيق النص المطعون فيه إلى الإجرام، بافتراض أنهم لا يعرفون لأقدامهم موقعها، ولا يقدرون للأمور عواقبها، وأن نزوعهم إلى الإجرام راجحا، حال أن مصائر الناس لا يجوز أن تعلق على غير أفعالهم التي يسألون عن حسنها أو قبحها؛ وكان اتهامهم ولو كان جديا ومتتابعا، لا يعدو أن يكون شبهة قد لا يكون لها من ساق، ولا يجوز بالتالي أن يردهم النص المطعون فيه جميعا إلى دائرة الخطورة الاجتماعية، ويلصقها دوما بهم، أيا كان مصير الاتهام الموجه إليهم، بل ولو قضى ببراءتهم، ليكون لغوا وافتئاتا على الحرية الشخصية في جوهر خصائصها، وهي بعد حرية لا يجوز تقييدها على خلاف أحكام الدستور التي لا تعتد إلا بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم، ولأنها دون غيرها هي التي يجوز إثباتها ونفيها، وهي التي يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها. ولا كذلك الخطورة الإجرامية التي لا تمثل سلوكا محددا أتاه الشخص، ولا تخالطها إرادة واعية يعبر بها عن قصد بلوغ نتيجة إجرامية بذاتها، بل تقوم في مبناها على افتراض تشريعي منتحل، مؤداه أن المتهمين جديا أكثر من مرة، قد شقوا على جماعتهم عصا الطاعة، وأنهم بالغون من أمرهم ما يدنيهم من العدوان عليها، وهو افتراض يباعد بينهم وبينها، لتنغلق أمامهم فرص الاندماج فيها.
وحيث إن من المقرر أن مبدأ خضوع الدولة للقانون - محدد على ضوء مفهوم ديموقراطى - مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديموقراطية، مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية الشخصية بالنظر إلى مكوناتها وخصائصها، ومن بينها ألا تكون العقوبة مهينة في ذاتها، أو كاشفة عن قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة على فعل واحد Double jeopardy وهذه القاعدة الأخيرة - التي كفلتها النظم القانونية جميعها، وصاغتها المواثيق الدولية باعتبارها مبدأ مستقرا بين الدول A universal maxim مردها أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين، وأنه وإن كان الأصل أن يفرد المشرع لكل جريمة العقوبة التي تناسبها، إلا أن توقيعها في شأن مرتكبها واستيفاءها، يعني أن القصاص قد اكتمل باقتضائها. وليس لأحد بعدئذ على فاعلها من سبيل.
ولا يجوز من ثم، أن يتعرض الشخص لخطر ملاحقته باتهام جنائي أكثر من مرة عن الجريمة عينها، ولا أن تعيد الدولة بكل سلطاتها ومواردها محاولتها إدانته عن جريمة تدعى ارتكابه لها - ولو من خلال خطورة إجرامية تعتبرها جريمة في ذاتها، وتلحقها بها - لأنها إذ تفعل، فإنما تبقيه قلقا مضطربا، مهددا بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لا قبل له بها، مبددا لموارده في غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته - ولو كان بريئا - تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائي متتابعا عن الجريمة ذاتها.
وحيث إن ما قرره النص المطعون فيه من اتخاذ أحد التدابير التي حددها في شأن الأشخاص الذين حكم عليهم أكثر من مرة في جناية مما نص عليه القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها - ولو لم تتعلق هذه الجناية بالمواد المخدرة، بل كانت تعديا على رجال السلطة العامة القائمين على تنفيذ أحكام هذا القانون - مؤداه أن المشرع قدر بالنص المطعون فيه، أن ثمة خطورة تنجم عن سوابق المتهم التي تمثلها جرائم ارتكبها من قبل، وأدين عنها، واكتمل القصاص في شأنها، وأن هذه الخطورة - التي لا تزيد عن أن تكون احتمالا لأن ينزلق مستقبلا في جريمة غير معينة - ينبغي التحوط لها صونا لمصالح الجماعة باتخاذ تدابير بعينها تنال من حريته الشخصية؛ وكانت الجريمة المحتملة التي لم يرتكبها المتهم بعد، هي التي أراد المشرع توقيها من خلال التدابير التي نص عليها؛ وكان ذلك من المشرع إحداثا لحالة إجرامية افترضها؛ وكان لا دليل على قيام علاقة حتمية بين انغماس الشخص في جرائم سابقة، وبين ترديه في حمأتها والعودة إليها من جديد؛ وكان مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص - لا عن جريمة أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى جسامتها - بل بناء على محض افتراض بالإيغال في الإجرام لا يرتد المذنبون عنه أبدا، بل هم إليه منصرفون يبغونها عوجا؛ وكان لا يجوز وفقا للدستور، أن يتعلق التجريم بخطورة أحدثها المشرع ولو في نفس قابلة لها، ولا يتسم باليقين تعلقها بشخص معين، بل تقوم في بنيانها على أن الجرائم التي ارتكبها من قبل، هي التي تشهد بحاضره، وينبغي أن تكون محددة مستقبلا لخطاه؛ وكان القول بأن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن حكم عليه أكثر من مرة، لازمها اتخاذ تدابير تتوقاها وترد سوأتها الإجرامية، مردود بأن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التي ارتكبها، جزاءها الملائم آخذة في اعتبارها سجله الإجرامي؛ وكان لا ينبغي أن يقرر المشرع - بالنص المطعون فيه - عقابا أكثر من مرة عن فعل واحد، بعد أن اكتمل القصاص في شأن الجرائم السابقة جميعها، ودونما جريمة جديدة يُدَّعىَ وقوعها.
وحيث إن النص المطعون فيه - وعلى ضوء ما تقدم - يقيد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية التي كفلها الدستور، ولا يلتزم الضوابط التي رسمها في شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية عن الجدل، وليس مبناه فعل أو امتناع يمثل سلوكا مؤاخذا عليه قانونا؛ وكان إيقاع أحد هذه التدابير التي تتوافر لها خصائص الجزاء - وحتى بافتراض جواز تقريرها اتصالا بالخطورة الإجرامية التي افترضها المشرع - يمتد زمنا قد يصل إلي عشر سنين بما يؤكد قسوتها، لتعطل حق المشمولين بها في النفاذ إلى ألوان الحياة وأشكالها في مجتمعهم مع تضييقها لفرصهم في العمل، بما يعوق اندماجهم في القيم التي يؤمن بها؛ وكان لا يجوز بعد اتخاذ هذه التدابير - وبفرض جوازها - الرجوع عنها أو تعديلها بما يكفل تناسبها أو استمرار ملاءمتها للأوضاع المتطورة للحالة الإجرامية التي وسمهم المشرع بها؛ وكان المشمولون بتلك التدابير، مواجهين بها لا يملكون دفعها، كلما قام الدليل على سبق الحكم عليهم واتهامهم جديا أكثر من مرة، مما يجردهم من وسائل الدفاع التي كفلها الدستور في شأن كل جزاء جنائيا كان أم تأديبيا؛ وكان من المقرر في شأن تدابير الدفاع الاجتماعي أن غايتها بلوغ أغراض بعينها تقتضى جهدا وصبرا ممتدا، فإن العدول عنها قبل أن تكتمل أهدافها، لا يكون جائزاً، ولو لم يعد المشمولون بها من الخطرين la mesure de surété poursuit un but qui demande toujours de longs et patients efforts: la disparition de l"état dangereux du délinquant ne prend fin de cette mesure que lorsque ce but est atteint.
وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفا لأحكام المواد 13 و41 و 66 و 67 و 69 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 48 مكرراً من القانون رقم 182 لسنة 1960 في شأن مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
La procédure de comparution sur reconnaissance préalable de culpabilité (CRPC)،
فإنه لا يجوز أن تظهر أي إشارة إلى اعتراف المتهم بالوقائع أو قبوله التكييف الذي تم التوصل إليه في المراحل السابقة للإجراءات ؛ وعليه فإن غرفة التحقيق حال إغفالها ذلك تكون قد خالفت نصوص المادتين 180-1 و495-14 من قانون الإجراءات الجنائية، فضلاً عن انتهاك قرينة البراءة وحقوق الدفاع ".
" وفي حال أن يحظر القانون على قضاء الحكم الاستناد إلى ما صدر عن المتهم في المراحل الأولى للإجراءات، فإن على القاضي المختص بالرقابة على صحة الإجراءات، عندما يطلب إليه ذلك، استبعاد وإلغاء المستندات التي تحمل آثار تجريم الذات غير الصحيحة ؛ وإذ لم تقم غرفة التحقيق بذلك، فإنها تكون قد تجاهلت مدى صلاحياتها، وخالفت النصوص والمبادئ المذكورة أعلاه".